.. تحياتي ..
شكلي سأبدأ في طرح بعض الصور ..
على الأقل ...
نجعل الإنتظار
ممتعًا ..
على عموم لنواصل السرد ..
واتمنى أن يروق لكم ..
ما تقرأون ..
محمد
----------------
12. عبدة الشيطان:
توقفت عن عد الأيام منذ مدة، فقد أضحت سواسية بالنسبة لي، وصار لي روتين يومي أتبعه، يبدأ مع الفجر في تمام السادسة صباحًا، وينتهي بقطع اتصالي بالإنترنت عندما تقارب الساعة الثانية عشرة ليلاً.
كانت أيامي تتكرر بشكل ممل، فأخرج من المعهد في تمام الثانية، وأتناول طعام الغداء مع مجموعة من الشباب العرب الذين بدأوا يتكاثرون في المعهد، أو في أحيان كثيرة أفضل أن أكون وحيدًا، أليست الوحدة خير من جليس السوء؟!
وتعلمت الكثير من العادات السيئة،
فمن التسكع في الشوارع،
والتأمل في موروثات الشعب الثقافية!
إلى إهدار المال على الطاولات الخضراء !!
طاولات البلياردو بالطبع!
اليوم هو ...، في الحقيقة لا أدري، فالأيام فقدت نكهتها، فلم يعد يوم السبت كما كان، و الأربعاء .. نعم الأربعاء، صار يومًا عاديًا، لا تميزه عن بقية الأيام بشيء، فلم تعد تفرق بين خميس وثلاثاء!، بل إن يوم الجمعة لم أعد أشعر بهيبته، ولولا صلاة الجمعة لنسيت ترتيب أيام الأسبوع.
خرجت من المعهد متوجهًا نحو مكاني المعهود في أحد المقاهي التي تقدم القهوة والشاي، حيث أحب أن أمضي جزءًا من وقتي هناك، أتصفح الإنترنت، وأتأمل العابرين، خصوصًا أن هذا المقهى مطل على شارع للمشاة فقط.
حملت كأس (الموكا) وجلست على الكرسي الوثير المفضل لي، المطل على الواجهة الزجاجية، وأخرجت (كمبيوتري) المحمول، وبدأت أتصفح مواقعي المفضلة.
إن أجمل ما يميز هذا المكان، هو الهدوء الشديد، فالأغلبية منغمسون في تصفح الصحف اليومية، أو قراءة الكتب، أو منهمكون في حديث هامس.
شق سكون المكان صراخ:
- لقد قلت لك أن تكفي عن فعل هذا معيّ أيتها (.....).
انتزعني هذا الصراخ القادم من الخارج من حالة الهدوء التي أعيشها، وعندما رفعت بصري نحو مصدر الصوت، وقعت عيناي على فتاتين تتبادلان التهم والسباب، كانت الأولى في لباس مدرسي، سترة بيضاء، معطف أزرق، تنورة مقلمة بالأزرق والأبيض، وتحمل حقيبتها خلفها، وتصرخ في وجه الأخرى بأن تكف عن مضايقتها، أما الثانية فكانت تغرق في السواد، فمن شعرها الأسود الداكن، مرورًا بعينيها السوداوين التي زادهما عمقًا الكحل الأسود العريض، بل حتى شفتيها لم تسلما من هذا اللون، فقد استخدمت لونًا قريبًا منه، وأما ملابسها فكانت تغرق في ظلام اللون الأسود، وتتدلى من عنقها قلادة كبيرة فضيّة اللون، وعلقت في أنفها حلقة فضية!
هرع بعض الأشخاص لفك النزاع الدائر بين الفتاتين، الذي امتد للتعدي باليدين، وشد الشعر، وخدش الوجه، بالإضافة إلى الشتائم التي تتنافسان في إطلاقها.
انفض النزاع (الممتع) لبعض الجالسين حولي!! فلقد كنت أسمع عبارات التهكم والسخرية تنصب على هاتين الفتاتين، وطريقتهما في الخصام، الذي أضاف إلى حصيلتي اللغوية العديد من المفردات خصوصًا نادرة الاستعمال منها!
ذهبت الفتاة ذات اللباس المدرسيّ إلى حيث تقع (محطة الحافلات) التي لم تكن بعيدة. أما الأخرى فقد جلست على أحد الكراسي المتناثرة في الخارج، وأخرجت علبة (سجائر)! وبدأت تدخن بشراهة.
إن رؤية رجل يدخن أمر مزعج جدًا، ولكن رؤية امرأة تدخن أمر يبعث على الاشمئزاز، فالمرأة التي هي موطن الرقة والحنان، تنسلخ من كل مفاهيم الأنوثة عندما تنفث هذا السم، بل وتفقد كل مقومات الجمال حتى ولو كانت من أجمل الجميلات.
فالتدخين يهوي بالإنسان، فيفقد الرجل رجولته، ويسلب من المرأة أنوثتها.
لم أتحمل هذا المنظر خصوصًا عندما جلست الفتاة في الخارج، أمام النافذة التي يطل عليها مقعدي، وما زاد المنظر بشاعة اجتماع مجموعة من المراهقين في نفس العمر حولها، يلبسون قريبًا من لبسها الأسود، وجميعهم ينفثون هذا السم الزعاف.
لذا نهضت من مقعدي حاملاً حقيبتي، وخرجت من المقهى، وعندما مررت بقربهم، التفتوا جميعًا ينظرون إليّ بتقدير!
لم أعرف ما سر هذه النظرات التي وجهها لي هؤلاء المراهقون، ولا ماهية الهمسات التي كانوا يتبادلونها.
أخذت أمشي في الشارع، أتصفح وجوه الناس، وأمتع بصري بجمال الطبيعة، حتى وصلت إلى وسط المدينة، عندما وقعت عيناي عليه!
وجهٌ شاحبٌ للغاية، بدا أنه لم يحلق ذقنه منذ مدة، غارت عيناه وأصبحت كتجويف فارغ في وجهه المكتئب، كان هائمًا في عالمه، حتى عندما التقت أعيننا لم يتعرف عليّ، رغم أن لقاءنا السابق لم يمض عليه أكثر من خمسة أسابيع، وتعجبت أنه مازال موجودًا في المدينة، فلقد اعتقدت أنه سافر منذ مدة، ومددت يدي إليه وقلت:
- (طلال)! ... السلام عليكم.
حدق في عينيَ طويلاً، ثم نظر إلى يدي الممدودة نحوه كأنما هو في حيرة بشأنها، وبعد مدة مد يده نحوي مصافحًا وهو يقول بصوت خافت بالكاد سمعته:
- وعليكم السلام.
- ما الذي جرى لك؟
- ماذا؟ ... أنا؟ ... أنا بخير، لكني متعب قليلاً.
- تبدو كالشبح بالنسبة لي، لم أكد أتعرف عليك.
اغتصب ابتسامة من أعماقه، جاهد كثيرًا لتخرج على شفتيه، غير أنها لم تستجب إلا بحركة زادت وجهه بؤسًا.
حاول أن يغير دفة الحديث بقوله:
- ما هذا اللبس الذي تلبسه؟ أسود في أسود؟
لم أنتبه لهذا من البداية، بالفعل .. كان لباسي في تلك اللحظة هو الأسود، ومع شعري الأسود، وإطار النظارة الأسود .. عرفت سر النظرات التي وجِهت لي من قبل تلك المجموعة الغريبة. واستمر (طلال) يقول:
- (لا تكون بس انضممت لمجموعة (عبدة الشيطان)، تراهم منتشرين هالأيام).
واختتم كلامه بضحكة سرعان ما تحولت إلى اختناق، بدأ يسعل بعدها بصوت أنين، أخرج منديلاً مبقعًا باللون الأحمر من جيبه، وبدأ يمسح به الدم المتناثر على شفتيه، وعندما حاولت أن أمسك يده لأجلسه، أشار إليّ وقال:
- لا بأس ... شكرًا لك، لابد أن أذهب الآن.
وضعت يدي على كتفه وقلت له بحزن:
- (طلال، ... لازم تروح المستشفى)
أخرج من حقيبته، كيسا أبيض اللون ممتلئًا بالأدوية، وأشار إليه وهو يعجز عن الكلام، حاولت أن أسأله عن مرضه، غير أنه ذهب بخطوات مرتعشة وهو يشير إليَّ أن أدعه وشأنه.
تبعته بعيني حتى اختفى عن ناظري وغاب في الأفق، وأنا أغالب نفسي في اللحاق به ومساعدته، غير أني احترمت رغبته في البقاء وحيدًا.
أثر فيَّ موقف (طلال)، فهو وحيد في أرض غريبة، بعيد عن أهله ووطنه، غريب في عالم مكتظ بالبشر، كنت أعرف أنه يحتاج إلى من يواسيه، ولكنه رفض مصاحبتي له.
تركت قدماي تقوداني كيفما اتفق، كان عقلي كصفحة بيضاء، كنت مهمومًا من لاشيء، أفكر في لاشيء، أعاني من فراغ كبير في داخلي، وفي أعماق أعماقي عرفت أني أعاني من الوحدة، والحنين، و .... الغربة.
أفقت من تأملاتي وجدت نفسي جالسًا على كرسي خشبي مواجهًا لنهر آفون، في مكان خالٍ من البشر، أخذت أتأمل في روعة المكان المحيط بي، كانت مياه النهر زرقاء صافية، وبعض الطيور تسبح بهدوء، وعلى ضفتي النهر امتد بساط أخضر إلى ما لانهاية، وتناثرت أشجار باسقة ملونة فتلك برتقالية اللون، والأخرى صفراء، وتلك حمراء، وخضراء، لقد درست في المدرسة بأن الأشجار في فصل الخريف تتلون، وبرهن أستاذي على صحة هذه المعلومات بالصور، ومضت السنون، وأنا أراها في الصور فقط ...
حتى رأيتها الآن ..
حقيقة.
كنت أشعر بأن عينيّ تكتسب وتتعرف على درجات ألوان جديدة، فبعد أن أصبحت خبيرة في درجات اللون البني، والأصفر .. ، بدأت تتعرف على أن هناك ألوانًا جديدة في الحياة، فهناك الأخضر بتدرجاته، والأحمر، والبرتقالي، والأزرق!
لم أدر كم من الوقت أمضيت، فالوقت يفقد قيمته وأنت تغرق في جمال كهذا، وتفقد الكلمات معانيها أمام هذه اللوحة التي أبدع صانعها وأتقن تكوينها.
تناهى إلى سمعي صوت أنين مكتوم ضعيف، حاولت أن أحدد مكانه فلم أستطع، نهضت من مكاني محاولاً أن أتتبعه، وعندما حددته توجهت ناحيته بحذر، فلم أكن أعرف ما سأواجه، كان الصوت يصدر من خلف مجموعة من الأشجار ، التفت حولها محاولاً أن لا أصدر أي صوت، غير أن تحطم أوراق الشجر تحت حذائي كان كصوت ألف قنبلة في هذا الهدوء.
توقف الأنين، وإن كنت أكملت التفاتي حول الأشجار، عندما وقعت عيناي عليه، شابٌ متكور على نفسه، مسندًا ظهره إلى إحدى الأشجار، دافنًا رأسه بين ركبتيه، محلقًا يديه عليها، لما أحس بوجودي رفع عينيه الدامعتين ونظر إليّ من بين خصلات شعره المتناثرة على جبينه، فقلت له:
- هل أنت بخير؟ هل أستطيع مساعدتك بأي شيء؟
.
.
.
وللحديث بقية ..
محمد
السلام عليكم مساء الخير اخوي محمد وجزاك الله خير على هالكتابه والصراحه انك صاحب قلم مميز وجذاب تصدق ان معايش قصتك ميه بالميه خاصه واني كنت مسافر لنفس مدينتك كراست شيرج وزاير الاماكن اللي زرتها والشباب السعوديين(حقيين ارامكو يوم الجمعه) ومعايش ذكريات كثيررره شبيهه بذكرياتك يعني بصراحه ما اقدر الا (لا فض فوك)
السلام عليكم
وعودًا حميدًا ..
أشكر كل من تفضل بالرد ..
والمتابعة ..
والحماس ..
وحتى (الهواش )
وأقول لكم جميعًا ...
شكرًا ..
وردودكم هذه .. من الأمور التي تحفزني ..
وتحمسني على الكتابة
نعود للتكملة ..
دمتم بخير
محمد
--------
12. عبدة الشيطان ( تتمة ):
نظرت إلى عينيه التي كنت أقرأ فيهما الألم الشديد، والضعف مع العجز .. والشعور بالذنب، كانت عيناه تلمعان والدمع يخط على وجهه، وإن كان يحاول أن يخفي تفاصيل ألمه بتغطية وجهه، وبمسح دموعه بكمه، ويقول (باللغة العربية):
- شكرًا لك يا (محمد)، لا أريد أن أتكلم الآن.
لم أتفاجأ من معرفته لاسمي، فلقد عرفت عندما رفع رأسه لي بأنه لم يكن سوى (طلال) الذي التقيته قبل سويعات، وسط المدينة، كنت أشعر بأنه يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى من يكون بجانبه، يحتاج إلى صديق.
وضعت حقيبتي جانبًا، وجلست على الأرض بجانبه، وأسندت ظهري إلى الطرف الآخر من الشجرة الكبيرة، لم أكن أعرف ما يجب أن أقوله، أو بماذا أبدأ لكي أخفف عنه ما يشعر به، غير أني فضلت الجلوس صامتًا، وأنتظر.
ظلننا على هذه الحال مدة طويلة، وبدأت الشمس تلملم أطرافها مودعة، والظلام يبسط ظلاله حولنا معلنًا قدومه، كدت أقترح على (طلال) أن نخرج من هنا، فلست أدري أين نحن، ولا كيف وصلت إلى هنا، غير أن تنهيدة طويلة أصدرها من أعماقه أسكتتني، وقال لي بصوت ضعيف لا أكاد أسمعه:
- أتعرف يا (محمد)، هذه الحياة عجيبة ... فبالرغم من كل مقومات الحياة السعيدة المتوفرة لديّ، التي جعلتني أظن أني أسعد أهلها،... لكني لم أكن كذلك؟
لقد جربت كل شي ... كل شي، في سبيل الحصول على حياة سعيدة، لكني لم أجد لها سبيلاً، أعرف أنك قد تقول إن السعادة في الدين والرجوع إلى الله، وأنا أتفق مع هذا الكلام، لكني لم أعرف ذلك إلا بعد فوات الأوان!
سكت (طلال) عن الحديث، كانت الدموع قد جفت على وجنتيه، وبدأ يتنفس بصورة عميقة، وهو يشخص ببصره إلى السماء متذكرًا، وبدا أن الذكريات تمزقه كل ممزق. حاولت أن أتكلم، محاولاً مواساته، لكني كبحت جماح نفسي، فهو في حاجة إلى الكلام أكثر من السماع.
فوجئت به ينهض بصعوبة، وهو يسعل بين الفينة والأخرى، وقال لي:
- تعال معي، أريد أن أجلس في مكان أفضل ... سأذهب إلى المسجد.
عاونته على النهوض وسرنا ببطء، فالضعيف أمير الركب، وهو يرشدني إلى مكان المسجد الذي لم يكن بعيدًا عن مكاننا، كانت الشمس على وشك الغروب، وعندما دخلنا المسجد كان الإمام قد شرع في الصلاة.
بعد أن قُضيت الصلاة، التفت لأجد (أبوحاتم) و(فاضل) والعديد من الشباب الذين التقيتهم في بيت (أبوحاتم)، بالإضافة إلى العديد من الجالية المسلمة، بدا وكأنهم كانوا في اجتماع ما قبل الصلاة.
شعرت بيد تمسك يدي، و(طلال) يهمس في أذني:
- أرجوك اذهب الآن، لا أريدهم أن يروك معي، فأنا (شبهة) .. فضلاً على أني أريد أن أبقى هنا لوحدي.
والتفت نحوي ينظر إلى عينيَّ وصوته يتهدج قائلاً:
- أشكرك يا صديقي ... على كل ما فعلته معي.
حاولت أن أرد، غير أنه أسكتني بيده وهو يشير لي بأن أتركه الآن، وعندما قمت والتفت لأخرج مع الباب، وجدت (أبوحاتم) يتحدث مع رجل لم أره من قبل، وأشار لي عندما رآني وهو يقول:
- (محمد) .. لا تذهب رجاءً .... أريد أن أحادثك في أمر مهم.
أخذت أتجول في المركز الإسلامي، و أتفرج على صور للمساجد الثلاثة (مكة والمدينة والقدس) معلقة على جدران المركز، وأقرأ بعض الإعلانات عن البرامج التي يشرف المركز على تنظيمها، فمن مخيم للشباب، وآخر للفتيات، ودعوة غير المسلمين لزيارة المركز في (اليوم المفتوح) إلى إقامة المناسبات والشعائر الدينية، كالجمعة والعيدين، بل حتى الصلاة على الجنائز وترتيبات دفنها.
شعرت بيد توضع على كتفي، وصاحبها يقول:
- أتنوي مشاركتنا في الأنشطة؟
ابتسمت نحو سكرتير المركز وقلت له:
- لا مانع لدي، بل أتشرف بفعل ذلك.
- ممتاز .. إذًا نريدك أن تشارك معنا في الإعداد لبرنامج (اليوم المفتوح)، سنقيمه الأحد القادم في المسجد – إن شاء الله -.
ولم يمهلني لأرد .. فالتفت وقال:
- يا (أبوحاتم)، الأخ يريد أن يشاركنا في فعاليات (اليوم المفتوح).
أقبل (أبو حاتم) ناحيتنا مبتسمًا، ويقول:
- هذا بالضبط ما كنت أريد أن أقوله، فيبدو أنك مليء بالأفكار، لنجلس في المكتب، فهناك عدة نقاط أريد مناقشتها مع سكرتير المركز.
دخلنا المكتب، وغرق الاثنان في نقاش حول البرنامج المقترح، وكيفية استقبال الزوار، ومتى سيكون موعد المحاضرة التي سيلقيها دكتور في إحدى الجامعات النيوزيلندية.
وفي لحظة صمت، سألت :
- من هم الزوار الذين تتوقعون قدومهم في ذاك اليوم؟
- الجالية المسلمة بالطبع، وكذلك غير المسلمين لنعرّفهم بأنشطتنا، ونجعلهم يدخلون المركز ويتجولون فيه.
فقلت وقد أخذتني الحماسة:
- جميل جدًا، وكيف ستوجهون الدعوات؟
- سنعلن عنه بعد صلاة الجمعة، وسيتم تعليق إعلان على لوحة الإعلانات داخل المسجد وربما لوحة قماشية خارجه، لماذا تسأل هل لديك فكرة ما؟
- ربما .. دعني أفكر فيها، وعندما تتضح في ذهني سأخبر(أبوحاتم) بها.
خرجت من المسجد مع (أبوحاتم) و (فاضل) عندما سمعنا من خلفنا صوت يقول:
- (أبو حاتم) هل نسيت موعدنا؟
التفت أبو حاتم نحو الصوت، ومن ثم عاد نحونا، وقال لنا:
- آسف ولكنه لدي موعد إلى قرابة العشاء، (فاضل) أرجوك اذهب أنت و(محمد) إلى (كاونت داون) واشتريا ما نحتاج إليه للعشاء، فالإخوان سيأتون اليوم.
ركبت معه في سيارته الصغيرة، وتوجهنا نحو المحل المقصود، وفي الطريق كان (فاضل) يتحدث عن بلده، وعن قسوة الحياة في هذه المدينة، وعندما أراد إيقاف السيارة في المواقف، التفت نحوه وأنا أتفحصه بنظراتي وقلت له:
- هل ستدخل المحل بهذه الملابس؟
كان (فاضل) حينها يلبس ثوبًا خليجيًا، ويعتمر طاقية مزخرفة.
- وما المانع؟ ( حوّل ولا تصير موسوس)
نزلنا من السيارة، وبدأت التفت حولنا، كانت المواقف شبه خالية من السيارات، وبدأنا نقطع المسارات الخالية في طريقنا إلى بوابة المحل الذي يفتح طوال اليوم، عندها تناهى إلى سمعي، صوت صرير سيارة مسرعة، وصوت أغانٍ تصم الآذان، اقتربت السيارة منّا، كان فيها ثلاثة شبان وفتاتان، يلبسون الأسود!
- (هيّ ... أنت، ماذا تفعلون في بلدنا)
بلسان ثقيل، بفعل المسكر والمخدر الذي يجري في دمه، صاح بنا أحدهم.
قال لي (فاضل) بحزم:
- (لا ترد عليهم، ما يقدرون يلمسونك!)
وأشار بطرفه إلى رجليّ أمن يقفان عند مدخل المحل التجاري الكبير، الذي كنّا متجهين نحوه. وبالفعل توارت السيارة عن الأنظار بعد أن لمح ركابها رجليّ الأمن، وخصوصًا عندما رفع أحدهما جهازه اللاسلكي قرب فمه وبدأ يتحدث من خلاله.
.
.
.
(للحديث بقية )
أخي محمد
أسعد الله لياليك
لقد قرأت مذكراتك الماتعة ، وورقاتك الباسمة ، للتو فرغت منها قراءة وتأملاً
شعرت وأنا أقرأها أنني أمام شخصية فريدة ، تملك مدادا لا يجف ، وقلما لا ينكسر !
تمعنت بالحروف ، وتأملتُ بالكلمات ، حتى أن البهجة تعلو محياي ، والسرور يملأ قلبي وأنا أقرأ
لذا كنت وأنا أدير عجلت الفأرة إلى أسفل أدعوا الله أن لا أرى كلمة [ تمت ]
وأن تستمر بالكتابة لأستمرأ الهناء والسرور .
كل كلمة تكتبها تقول لأختها التي قبلها : أنا أطرب القارئ أكثر منكِ !
وكل جملة تسطرها تتفوه لسابقتها التي قبيل النقطة : ها أنذا بحلة أبهى منكِ !
كتبت فأبدعت :24:
سطرّت فأسرت :24:
نقشت الحروف فتراقصت لك الجمل :115:
أبحرت في الكتابة فتمايل لك الخيال :101:
غنّت مقالاتك فطربت صفحاتك :24:
ولي ملحوظة يسيرة ، وأظن أن كرمك سيأذن لي بطرحها ؛ فأستميحك العذر أولا لذلك !
لقد قرأت مقالاتك كلها حتى وكأنني أراها وجبة شهية لرجل لم يأكل منذ أيام :114:
بيد أنني أرى أن أسلوبك الأول أعذب ، وأرق ، وأشهى ، وألذ من الأسلوب الثاني !
ومن حقك أن تقول : لمَ ؟
فأستميحك أخرى لأقول : إن أسلوبك الأول أقرب إلى فهم القارئ وأسهل
إذ إنك لما دلفت علينا بأسلوبك الثاني : تداخلت فيه العبارات وامتزجت فيه الضمائر فاحتجت لأعيد عجلة الفأرة لأرى من المقصود بهذه الجملة ولمن يعود الضمير الذي هو بصيغة الغائب أو المخاطب ! سيما وأنك تسرد مقالا طويلا قلت قبله : محمد يتحدث ، توماس يتحدث !
وهذا ـ بالنسبة لي ـ جعل لدي فجوات في سرد القصص أو القصة سيما وأن مقطع الحديث يكون طويلا جدا قد يصل لآكثر من عشرة أسطر !
وهذا في نظري لا يناسب القصة القصيرة ! والتي جعلت صفحاتك على نسقها .
ولكني أراك بعد ذلك بدأت بالانتقال من أسلوبك الأخير إلى نهجك الأول !
ثم قمت بطبيعة قلمك ـ لا جف له مداد ـ تعود أدراجك نحو السلس الجميل في القصص !
فهاهي مانشستر ، ثم عبدة الشيطان تأتي لتشنف أسماعنا على الرتم الجميل الذي أحببتُ أنا أن تكون الورقات كلها كذلك .
أرجو أن يتسع صدرك لهذه الملحوظة والتي هدفت منها التالي :
أن قلمك مشروع مداد ساحر !
وخيالك خيال لا أفق له يحده !
وأن لك أخوة هنا يستلذون بأسلوبك كما يتلذذون بأشهى المأكولات !
وأن هذه الورقات قد تنشر على حساب [ شارع التحلية ]:109:
وتقبل أهازيج شكري .
أخوك المحب .
[align=left][/align]
الأخ العزيز "محمد™"
نشكركم على هذا التقرير الرائع
ونبلغكم أنه تقديرا من لجنة المواضيع المميزة ( نسيم نجد ، المغامر ، ابوسلطان ، KABAYAN ) بالمنتدى
فقد تم تمييز موضوعكم بضمه
http://www.travel4arab.com
ووضعه في سلة المواضيع المميزة في أعلى المنتدى كذلك
ولكم كل التقدير
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابومحمد
[align=left][/align]
الأخ العزيز "محمد™"
نشكركم على هذا التقرير الرائع
ونبلغكم أنه تقديرا من لجنة المواضيع المميزة ( نسيم نجد ، المغامر ، ابوسلطان ، KABAYAN ) بالمنتدى
فقد تم تمييز موضوعكم بضمه
http://www.travel4arab.com
ووضعه في سلة المواضيع المميزة في أعلى المنتدى كذلك
ولكم كل التقدير
أخي الكريم
الشكر قد يكون قليلاً في حقكم .. كإدارة للموقع، وكلجنة المواضيع المميزة ..
اتمنى ان أكون قد وفقت في تقديم ما ينفع القارئ في هذا الموضوع ..
وشكرًا على حرصكم ...
ولعل هذا يكون دافعًا .. للمزيد ..
دمتم بخير
محمد
السلام عليكم ...
كيفكم ... مستمتعين !!
وأنا كذلك ..
ربنا يديم عليك كل هذه النعم
ويبعد عنّا وعنكم شياطين الجن .. والأنس ..
نعو للسرد .. بعيدًا عن المقدمات التي لا فائدة منها ..
وأشكر كل من تكرم بالرد .. والمتابعة ..
وأشكر كذلك إدارة الموقع على هذا التكريم الذي سيجعلني أفخر ... دائمًا ..
قراءة ماتعة ..
------
12. عبدة الشيطان ( تتمة ):
دخلنا المحل الكبير (كاونت داون)، وبدأنا في التسوق، توجه (فاضل) إلى أحد الأرفف، بينما بدأت أتمشى في المكان، كان المحل كبيرًا لدرجة أنك تحتاج إلى قرابة الساعة لكي تلفه كاملاً، والعجيب أنه كان شبه خال، مع أن الوقت لا يزال مبكرًا، فكانت ساعتي تقترب من الثامنة عندما اقتربنا من طاولات المحاسبة، توقف (فاضل) أمام ركن الحلويات وقال لي وهو يمد لي بـ (حلاوة مصاص!) :
- اعذرني يا (محمد)، فعندما أدخل محلاً كهذا في بلدي فإني تعودت أن أعود إلى إخوتي الصغار بحلاوة كهذه، ومنذ أتيت إلى هنا، لا أتمالك نفسي من شراء هذه الحلاوة لي ولمن معي، أرجو أن تقبلها.
- لا بأس ... مادمت تعدني في مقام (إخوتك الصغار).
ركبنا السيارة وانطلقنا، وكلانا وضع في فمه (الحلاوة المصاص). وعندما ألتفت إلى (فاضل) لم أملك نفسي من الضحك، وأنا أقول:
- (شكلنا رهيب، ودّك يرجعون السكارى الي قبل شوي، ويشوفون أشكالنا بهالحلاو).
ضحك (فاضل) وهو يقول بلهجته الرائعة :
- ( أقول سيييير منييّ ) ،بالمناسبة هل تريد رؤية أماكن تجمع مثل هؤلاء!
- ماذا، تقصد أماكن سهرهم في البارات!؟
- لأ ... هؤلاء مجموعة يقلدون في حركاتهم جماعة (عبدة الشيطان)، ويسمعون نفس الموسيقى التي تشتهر بها تلك الطائفة (موسيقى البلاك ميتال)، من حسن حظك أن اليوم هو (13) في الشهر، هل تريد بعض المتعة!
- (13) ؟! ... متعة ! أتقصد أنهم يجتمعون في هذا اليوم؟
- بالطبع، لعلك لاحظت تكاثر وجودهم في هذا اليوم، في وسط المدينة بالذات، يعلنون فيه عن وجودهم، وطريقة لإثبات ولاء صغارهم بالتجول بزيهم داخل المدينة دون خوف من الناس.
- وهل تعرف أين يجتمعون؟
- سنجرب، أذكر أني قرأت أنهم يجتمعون عند المقابر الكبيرة، ولدينا عدة مقابر في هذه المدينة، ولكني أعرف مقبرة قريبة من هنا، وأعتقد أننا ربما نكون محظوظين! ما رأيك؟
( محظوظين!)
يالها من طريقة في التعبير، أخذت أفكر في عرض (فاضل) المغري، فهي قد تكون فرصة نادرة لرؤية طقوسهم التي تكون غالبًا مخفية عن أعين الناس، وبما أن هذا الشاب الجالس بجانبي يبدو خبيرًا بطرقهم في هذا البلد، فلم أتمالك نفسي من القول:
- لا بأس .. لنذهب.
انعطف (فاضل) بالسيارة، نحو أحد الطرق الفرعية المظلمة، وسرنا ندخل في طريق ونخرج من آخر إلى أن وصلنا منطقة خالية من البشر وكل دلائل الحياة، وبالرغم من قربها من وسط المدينة إلا أنها كانت مقفرة بشكل غريب!
دخلنا إلى شارع مظلم وزاد من ظلمته إطفاء (فاضل) نور السيارة، فلم يبق لنا سوى نور ضئيل يتسلل باستحياء من القمر الذي يُحجب بالسحب تارة ويعود ليضيء المكان تارة أخرى، التفت نحوه وقلت:
- لماذا أطفأت نور السيارة؟
همس لي :
- (اششش) .. هل ترى تلك السيارات الواقفة، أعتقد أنها تخصهم.
وأشار إلى سيارات بعيدة، بجانب مبنى مهجور، مطل على مقبرة كبيرة، كنت ألمح القبور والأنصبة والصلبان التي وضعت عليها.
تقدم بالسيارة إلى أن بدأنا نتعرف على نوع السيارات، وتوقف جانبًا، مختبئًا خلف إحدى الأشجار، بحيث تمنحنا فرصة النظر والمراقبة دون أن يعرف أن بداخل السيارة أحدًا، أطفأ المحرك، وهمس بأن نبقى في السيارة نراقب فقط، ففي النزول خطر، فلا ندري ما يفعله هؤلاء بمن يمسكونهم، خصوصًا أن مجموعة من (عبدة الشيطان) يشربون دم الإنسان!
جلسنا في السيارة، والهدوء والظلام يلفان المكان الميت، فليس هناك أي شيء يدل على الحياة، وبعد نصف ساعة، تململت في مقعدي وقلت لفاضل:
- لقد تأخرنا على الشباب، ما رأيك أن ......
قاطعني بإيماءة من يده، ويشير إلى الأمام، وعندما التفت وجدت عددًا من السيارات الفارهة، عرفت منها (بورش، فيراري) تقف جانبًا بجانب السيارات الأخرى التي تنافسها في الغلاء والرفاهية، فهذه الجماعة تسعى لضم أبناء الأغنياء وأصحاب المراكز الكبرى.
نزل من السيارات عدد من الشباب ذكورًا وإناثًا، والموسيقى التي تصدر من السيارات تصم الآذان، فـ (البلاك ميتال) تعد من أصخب أنواع الموسيقى وأكثرها نشازًا، وفيها العديد من الصراخ والقسوة ... واليأس!
أُطفئت أنوار السيارات، وانفتح باب المبنى المهجور، وابتلع كل المراهقين، وبقي اثنان خارجًا للمراقبة، وبعد فترة من الزمن دخل الجميع. انتظرنا لفترة عندما التفت لي (فاضل) وقال:
- يكفي إثارة لهذا اليوم، فوراءنا أناس جوعى في انتظار عشائهم.
- وهو كذلك، ( وش رايك نمر بجانب السيارات والمبنى!)
نظر إلي (فاضل)، وهز رأسه وهو يدير محرك سيارته، ويغادر موقعنا ويتقدم بهدوء أي سيارة عادية تمشي مسالمة في طريقها. كانت الموسيقى الصاخبة تنبعث من المبنى، وأصوات صراخ و(هسترة) تنبعث من الداخل، وأما السيارات فكانت تعج برسومات عجيبة، كصليب النازية، ونجمة خماسية داخل دائرة، ويد مرسومة مرفوع فيها فقط (الإبهام والسبابة والخنصر)، واحتل رقم (666)(1) الزجاجة الخلفية لإحدى السيارات، وكتب تحته (أفضل صديق عرفته البشرية منذ القدم!)
وعندما حاذينا الباب، ضغطت على مسجل السيارة، حيث كان هناك شريط قرآن للشيخ سعود الشريم، الذي صدح صوته مجلجلا في المكان، بعد أن رفعت صوت المسجل، وبعدها انفتح باب المبنى، وأطل وجه لطخه صاحبه بألوان غريبة، ونظر نحونا في غضب، وكان (فاضل) لحظتها يضغط بكل قوة على دواسة الوقود، والسيارة الصغيرة تزأر بكل قوتها منطلقة نحو الأمام، وفي المرآة الخلفية، لمحنا صاحب الوجه يشير بإصبعه بعلامة سب مقذعة!
واصلنا المسير بسرعة (وفاضل) يدخل في شارع ويخرج من الآخر، وكنا نغرق في صمت، ونختلس النظر بين فينة وأخرى إلى المرآة الخلفية، إلى أن وصلنا إلى بيت (أبوحاتم).
نزلنا من السيارة التي حرص (فاضل) على إخفائها جيدًا، وهو يقول ضاحكًا:
- حسبي الله عليك، كدت تفضحنا، وتجعل من دمائنا شرابًا لهم.
دخلنا المنزل، وتناهى إلى سمعي صوت (وليد) يصلي العشاء ببعض الشباب، وعندما اصطففنا معهم، كان يتلو بصوته العذب :
( الحمد لله رب العالمين،
الرحمن الرحيم،
مالك يوم الدين،
إياك نعبد وإياك نستعين،
اهدنا الصراط المستقيم، .... )
.
.
(تمت)
محمد
-----
(1) (666) : رقم الشيطان في عقيدة (عبدة الشيطان).
أشكر كل من تكرم بالرد .. والمرور على هذا الموضوع .
وفتحت ملف الصور ..
وبدأت اختار لكم ..
أتمنى أن تروق لكم الصورة التالية ..
1/ جبل في منطقة ( milford sound) ... ببساطة من أجمل المناطق التي رأتها في حياتي :
----
2/ منظر رااائق .. على نهر (آفون) في مدينة كرايستشيرش .
----
3/ انعكاس جميل في بحيرة .. ( في طريقنا إلى Milford sound)
----
سأعود بإذن الله مع مزيد من الصور ..
دمتم بخير
محمد
ابو حميد الله يرجك الحكاية سرقت وقتي ... :24:
تصدق جلست امام الجهاز ثلاث ساعات تقريباً وانا اقراء هذه القصه الرائعه !!
وفي كل مره اقول سـ ( اكتفي )بهذا الكم من القراء وسـ(عود) لها لاحقاً !!
لكن لم استطع مفارقتها حتى انهيت جميع صفحاتها ...:114:
بارك الله فيك اخوي محمد ...
ونحن با الانتظار دايماً وابداً معــــــــــك:x1:
عودًا حميدًا ..
نعود للسرد .. بعد أن توقفنا لفترة في عرض بعد الصور ..
ومع الحلقة الثالثة عشرة ..
يوم جميل للجميع
محمد
--------------------
13. الجمعة الأخيرة!
كانت عقارب الساعة في سباق محموم نحو الحادية عشرة صباحًا، عندما أنهى المدرس مراجعة النقاط الأخيرة للمادة، ففي الأسبوع القادم ستبدأ الاختبارات. لملمت أغراضي ووضعتها في حقيبتي الصغيرة على عجل، وخرجت من القاعة مسرعًا لأتمكن من اللحاق بالحافلة التي ستقلني للمسجد، عندما استوقفني صوت يقول:
- (محمد) ... لحظة من فضلك.
التفت نحو الصوت لأجد (سالي) المشرفة الأكاديمية على المعهد تشير إليَّ قائلة:
- هناك أمرٌ أريد أن أتحدث معك بشأنه، هل بالإمكان أن تمشي معي إلى مكتبي؟
لاحظَتْ ترددي، وخصوصًا عندما لمحتني ألقي نظرة سريعة إلى ساعتي، وأضافت:
- مجرد دقيقة، ولا تقلق فلن تتأخر عن موعد صلاة الجمعة!
حزمت أمري وتوجهت معها نحو مكتبها، وبعد أن دخلت المكتب جلست هي على الكرسي، وبقيت واقفًا، لكيلا أطيل مدة مكوثي، رفعت رأسها نحوي وهي تزيح نظارتها وتقول لي بأسى:
- سأختصر ما سأقوله لك، فأعتقد أنك تعرف طلال، أليس كذلك؟ أعتقد أني رأيتكما معًا عندما كان يدرس لدينا؟
توقفت عن الحديث لحظة كأنما تلتقط أنفاسها قبل أن تفضي إليَّ بالخبر المزعج.
أصابني القلق، ففي آخر لقاء لنا كان (طلال) في وضع مزر، وفي حالة نفسية سيئة جدًا، فقلت متوقعًا الأسوأ:
- (طلال)! ... ماذا جرى له؟
- إنه مريض، مريض جدًا يا (محمد)، وهو في حاجة إليكم، فأرجو ألا تتركوه وحيدًا، أتمنى أن تتصل به، بالرغم أنه لم يعد يقيم هنا، فقد انتقل قبل أسبوع إلى مدينة (دنيدن)، ومع أن حالته الصحية حرجة، فقد بدأ في دراسة الطب هناك.
- (طلال) يدرس الطب!
تمتمت متعجبًا .. ولم أتمالك نفسي من الابتسام، وأنا أتذكر موقفه مع (توماس)، وإفصاحه عن رغبته في دراسة الطب! هززت رأسي وقلت لسالي:
- سوف اتصل به إن شاء الله.
- شكرًا لك يا محمد، لقد علمت أنك ستهتم لأجله.
خرجت من المعهد، وكان أغلب الشباب الذين تعودت أن أذهب معهم إلى المسجد قد سبقوني. توجهت نحو محطة الحافلات، وكانت الحافلة رقم (84) والتي تمر قريبًا من المسجد، تستعد للوقوف في المحطة، صعدت فيها وجلست في مقعدٍ في منتصفها، وأنا أفكر في الحديث الذي جرى بيني وبين مسؤولة المعهد، وعن ماهية مرض طلال؟ وكيف عرفتْ عنه؟
وقبل أن تتحرك الحافلة صعدت امرأة في منتصف العمر إلى الحافلة، التفت كل العيون نحوها، ومن خلفي سمعت بعض التهكمات الخفية واللمز حول لباسها، فلقد كانت المرأة متحجبة الحجاب الإسلامي المنتشر في أغلب الدول العربية، وفي عزة ووقار جلست على مقعد شاغر ولا يفصل بيننا سوى ثلاثة صفوف فارغة، لم تلتفت إلى أحد، ووضعت حقيبتها بجانبها على المقعد الآخر.
بدأت الحمية الدينية تضطرم في داخلي، فلو تجرأ أحدهم على المساس بكرامتها، أو تهجم عليها بكلمات جارحة، خصوصًا بعد اللمز الذي سمعته خلفي، فسأجد نفسي من دون شك مدافعًا عنها، ولو انتهى الأمر بي إلى المشاكل.
توقفت الحافلة وصعد إليها عدد من الركاب، توجه أحدهم نحو المرأة، التي أزاحت حقيبتها من المقعد الذي بجانبها، وجلس الرجل وبدأ يتبادل معها الحديث. لم أسمع شيئًا مما دار بينهما، وإن كان انسجامهما بعضهما مع البعض يدل على أنهما من عائلة واحدة.
عندما قاربت الحافلة المسجد ضغطت على زر التوقف، وبدأت الحافلة تستعد للوقوف، وعندما قمت من مقعدي قام الرجل والمرأة أيضًا لكي يخرجا من الحافلة، تركتهما ينزلان قبلي، وعندما غادرت الحافلة، التفت الرجل نحوي وقال بالعربية:
- السلام عليكم، هل أنت ذاهب إلى المسجد؟ فزوجتي وأنا لا نعرف المنطقة جيدًا.
كان يتكلم بلهجة سكان دولة عربية شمال إفريقية، فابتسمت وقلت:
- بالتأكيد، بإمكانكما المشي معي.
التفت نحو زوجته وقال لها:
- سنسرع نحن، وأنتِ أتبعينا على مهلك، فلقد تأخرنا على الصلاة.
وحثثنا المسير نحو المسجد الذي كان يبعد عنا بضع عشرات الأمتار، وفي الطريق بدأ (أحمد) يعرف بنفسه وأنه محام في بلده، وانتقل للعيش هنا مع زوجته (سلوى) التي تدرس في الجامعة وتحضر لنيل درجة الدكتوراه، وبعدها سألني:
- أأنت من السعودية؟
- نعم، أتعرف أحدًا هنا؟
- نعم، فأخت زوجتي تعمل طبيبة لديكم، في الرياض تحديدًا، وقد بدأت العمل مؤخرًا، وللأسف لا تعرف أحدًا هناك.
- الرياض مليئة بأناس من دولتكم.
- هي لا تعمل في الرياض بالضبط، وإنما في إحدى القرى التابعة لها، (مش فاكر اسمها بالضبط) لكن هي قرية في شمال غرب الرياض، فيها مستشفى كبير.
تردد لهنيهة ثم قال:
- نعم .. لقد تذكرت، اسم القرية (حريملاء) (1).
اتسعت ابتسامتي، وانقلبت إلى ضحكة خفيفة، والتفت نحوه ألمح نظرة الحيرة في عينيه، فلامبرر لضحكي في نظره، وقلت:
- معذرة يا (أحمد)، فحريملاء ليست بقرية، إنما محافظة (أد الدنيا).
أشرقت عيناه بفرح وقال:
- (أنت بتعرف البلد دي؟)
- أنا لا أعرفها فحسب، بل لقد ولدت فيها وعشت فترة من حياتي بين جنباتها.
أعقدت المفاجأة لسانه، وتوقف عن المشي، والتفت خلفه نحو زوجته التي كانت بعيدة حينها، وهو يصرخ بفرح قائلاً مشير نحوي:
- ( يا سلوااااااى ... ده من حِرِيملهَ!!)
.
.
وللحديث بقية ..
----
(1) حريملاء محافظة تقع (80 كم) شمال غرب مدينة الرياض، للمزيد http://www.hrmla.com
المفضلات